وكررتها مرة آخرى أشد قسوة من التي سبقتها: "انت ما كنتش بالنسبة لي حبي الغالي .. انت حياتي وربيع عمري وكل آمالي".
عندها توقفت الارض عن الدوران ولم أسمع من الأغنية التي بقيت شادية تدندنها عبر إحدى التطبيقات الموسيقية في هاتفي.
ألم تكن أنت ايضا ربيع عمري وكل آمالي أتذكر عندما أخبرتك أنني أحبك لم أجد صعوبة بالرغم من أنه مرة على استعمالي لهذه الكلمات سنوات طويلة خلتني لم أعد استطيع نطقها، معك خرجت لوحدها دون تردد خجل وقلق من أن تسيء فهمها.
أعتقد أنها ليلة نيسان متقلبة المزاج، بائسة لن تمر بسلام وسط عاصفة الذكريات التي تجتاحني، فلدي القدرة على تمييز رائحة الحنين عن بعد فهذا موسمه وجوّه (عتمة، برد ووحشة).
وعلى سيرة الروائح أتذكر عندما عانقتني لأول مرة بعد عودتك من السفر قبلتني وأخبرتني بأن رائحتي جميلة ومنذ لقائنا الأخير غيرت عطري 4 مرات لأنسى تلك الرائحة وذلك اللقاء لكنني حتى الآن لا أستطيع الثبات على نوع من العطور فلم أجد واحداً ينسيني رائحة الحنين.
غريبة هي تلك النفسيات التي نعيش فيها، اليوم عثرت على صور قديمة لي، كنت ما زلت غير معلنة لحالة الطوارئ ولم أتعدى الخطوط الحمراء لوزني، تأملتها جيدا واكتئبت.
طبعا في كل مرة يصيبني هذا الاكتئاب اللعين أذهب للجلوس ساعة أمام الثلاجة والخروج من المطبخ بوجبة حلوة المذاق تعويضاً لنفسي ولأعصابي على حرقها لساعة من الزمن، هذه المرة قبل أن أذهب نحو الثلاجة جلست لساعات طويلة افكر كيف طُرق ناقوس الخطر بمدة زمنية قصيرة، كيف أصبح الأمر محرجاً لهذه الدرج؟ لكن دون إجابة.
كل هذا لم يزعجني بقدر غضب أمي من سؤالي الاستنكاري لها بعد رؤيتها للصورة، الأمر الذي جعلني أخفف من وقع غضبها بوصلة مزاح جعلتها تتضحك موبخة.
لماذا كان لزاماً علّي أن أقوم بدور البهلوان، خفيف الظل لأخفف من وطئة وزني، في محيطي العلاقة الطردية الناجحة لأصحاب السمنة الزائدة (خفة دمك مقابل ثقل وزنك)!
ففي أي دائرة اجتماعية على صاحب الوزن الثقيل أن يتخطى غمزات ولكزات المجتمعين والمجتمعات بالاعتراف بالوزن الثقيل وسط موجة من النكات بعدها تأتيك النصائح الغذائية من حيث لا تعلم، وأكثر ما يجعل خلايا دماغي الرمادية تضحك صاحبة الوزن المأساوي التي تقنع نفسها بأنها خف الريشة وتبدأ باعطائي النصائح الغذائية وهي تقول لي: " انظري إلى كسمي رغم أنني ينقصني التخلص من كيلو أو اثنتين افضل"!!
أما أمي العزيزة وصديقاتي وقريباتي القلقات على مصيري الاجتماعي، اللواتي يعتبرن أن فارس الأحلام سيأتي وبخرج حماره الأبيض ميزان، ودبلة الأحلام معلقة بتلك الغرامات الزائدة فبكفة آخرى من يومياتي التي أستمع فيها للنصائح الاجتماعية وتخوفاتهن.
أعزائي المحيطين بي، أيها السيدات والسادة نعم يا كرام، شكراً لتعاونكم ومجهودكم بالنصائح التي ترفرف علّي من كل حدب وصوب، لكن أنا السمينة والسمينة جداً لدي من الثقة بالنفس الكبير لأضرب ناقوس الخطر وحدي وأعرف ما علّي فعله، دون مساعدتكم إذا أردت ذلك.
ما أن أطفئت الأضواء في قاعة السينما في حيفا حتى أدركت أننا أمام فيلم صهيوني بحت، شاهدت اعلان الفيلم مراراً قبل أن أعرض على صديقاتي مشاركتي بمشاهدة الفيلم لكنه ليس أول فيلم أشاهده يتحدث عن الهولوكوست بدون طبعة الصهيونية التي تغلفه، وأنا أعشق البريطانية "هيلين ميرين" فكيف لي أن أترك الفيلم !!
يبدأ الفيلم لقطته الأولى وماريا تتلو كلمتها امام قبر شقيقتها في ولاية كاليفورنيا، وتشارك برمي التراب على التابوت الأرستقراطي الذي يحمل نجمة داوود الحمراء، لتبدأ الرحلة مع تساؤلات واضرابات طيلة عرض الفيلم.
كان لابد لي أن أكتب تلك التساؤلات بعد خروجي من الفيلم مباشرة، لكنني فضلت الانتظار لأيام علها تسكن كعادتي بعد مشاهدة أحد الأفلام، وأنسى أن أكتب.
The Queen في الستين
تعجبني عبقرية هيلين ميرين، التي حازت على جائزة الأوسكار في الستين من عمرها عن دور الملكة اليزابيث في فيلم " The Queen" لتقم بنفس العام بأداء دور صاحبة بيت الدعارة الأول في ولاية نيفادا بالثمانينات لتقوم بأجرأ مشاهد أدتها فنانة تجاوزت الستين في "Love Ranch"، لتتألق بعدها بالعديد من الأدوار المتنوعة بين الكوميديا، الاجتماعي والأكشن.
ورغم تأديتها لفيلم صهيوني في السابق " The Debt" إلى أنني وكالعادة أعجبت بأدائها كعميلة للموساد الاسرائيلي التي تدعي مع رفاقها بتأديتهم لمهمة عسكرية في أوكرانيا، بقتلهم دكتور نازي إلى أنها بعد 30 عاماً تكتشف أن الموساد علم بعدم تنفيذهم للعملية وتأمر بتنفيذه.
ومع كل فيلم يتجدد لدي ذلك الخليط بالشعور بالذنب وإفتتاني بأدائها واتقان الفيلم إخراجاً وحبكة وتصوير، وبين ترجمة عقلي الفورية لكل مشهد يجسد الظلم النازي لليهود في أوروبا إلى يومنا والظلم الصهيوني للفلسطينيين.
بين جنين وفيينا
يروي فيلم " Woman In Gold" سيرة ماريا ألتمان اليهودية التي فرت من فيينا التي عاشت فيها مع عائلتها الاستقراطية التي عاشرت كبار الفنانين والأدباء في تلك الحقبة لتأتي النازية وتحجز على أملاك العائلة وتبقيهم رهن الحبس المنزلي، تنجح ماريا وزوجها مغني الأوبرا بالهرب من فيينا نحو الولايات المتحدة لتقضي هناك 50 عاماً.
بعد مشاهدتها لوثائقي عن لوحة "أديلي" للفنان غوستاف كليمت تقرر ماريا استرجاع لوحات عمتها السيدة صاحبة الصالون الأدبي "آديلي بلوخ باور" التي اتخذها كليمت كموديل لاثنين من أعمال البورتريت الشهيرة، وتعد لوحة "أديلي أو المرأة الذهبية" إحدى أغلى اللوحات في العالم والتي اشتهرت بكونها "موناليزا النمسا".
وتبدأ معركتها مع السلطات النمساوية التي تعترف بملكية عائلة ماريا التمان - باور للوحة في الماضي، وإمتلاكها اليوم في متحف العاصمة فيينا أمر قانوني، لتستطيع بعد أعوام ماريا الحصول على اللوحات وعرضها في متحف نيويورك.
ومرة آخرى تنجح ميرين وأفشل أنا بمغادرة القاعة وعدم إكمال الفيلم، ففي كل مشهد فلاش باك تعود فيه ماريا لشبابها ونازية فيينا اسأل نفسي: " هل عليّ أن أتعاطف؟" وبصمت متخاذل أعود لأكمل الفيلم.
توقفا عند أحد الحواجز للتفتيش اثناء الهرب قلت في نفسي عندها: " ما الفرق بين وقفتهما ووقفتي تحت المطر بانتظار التفتيش على حاجز الجلمة عند خروجي يوم أمس من مدينة جنين؟!".
ابتسمت لانتصاري هذه المرة وأكملت المشاهد التالية، انتهى الفيلم اشعلت الأضواء وسارعت للخروج من القاعة لأقنع نفسي أن تخفف من وقع الشعور بالذنب، كنت أولى الواصلين إلى الباب وكأنني افتح باب الجنة خرجت مسرعة.
لربما أن تكون أقوى مشاهد ميرين تلك التي لم تنطق بها، فقط متابعة بريق عينيها الذي يعيدنا إلى الفترة النازية يجعلنا قادرين على الإمعان بالفيلم، وذلك الشبه الرائع بينها وبين الممثلة البرازيلية التي تؤدي دور ماريا الشابة يجعلنا مذهولون أمام عبقرية المخرج سايمون كيرتس، ونعود لسؤال جديد هل سيكون لدينا تلك الطاقات لإنجاز أفلام تضاهي عبقرية هذا الفيلم عند العودة؟ هل سيكون لدينا لوبي في أنحاء العالم قادر على دعم هذه الأفلام، وهل ستوافق هيلين ميرين على دور البطولة في فيلم فلسطيني؟ السؤال الأخير كان جوابه حاضراً فلا أستطيع أن أتخيل أنها ستكون على قيد الحياة عندما ننال تلك الحرية.
شعب الجبارين !
وبين رضى حنان الإنساني المتطرف ورفض رنا للتذويت الذي يطلبه الفيلم بقيت مدافعة حيناً ورافضة حيناً، لا أدري ما ذلك التخبط الذي نعيشه حتى بمشاهدة فيلم، 110 دقيقة استطاعت أن تشعرني بالذنب، التعاطف، الاشمئزاز، الشفقة والمقارنة بين أمسهم القريب ويومنا الأقرب.
تساءلت طوال الأيام الماضية هل الفيلم يجبرنا على الخضوع لكلمات الأديب غسان كنفاني بأن علينا أن نقم لأن لدينا شيء في هذا العالم، هل سنستطيع عند انتهاء الاحتلال من استرجاع ما سلبوا منا؟، هل سننجح بتنظيم أوراقنا وتنظيم أنفاسنا الطويلة لسنين عدة بين أروقة المحاكم مطالبين ببيوتنا التي سلبت وفننا وجذورنا؟ هل سننجح باسترجاع سنوات وأجيال اقتطعوها من دهرنا؟
أسئلة كثيرة كانت تدوي في ذهني، عن ضرورة تنظيمنا وأرشفة تاريخنا ووثائقنا استعداداً لتلك الساعة التي سنخوض فيها تجربتنا الذهبية في استعادة أملاك الغائبين.
أسئلة كبيرة وخربشات عقلية صعبة تدور يومياً في عقلنا وتصرفاتنا، وأحياناً اتساءل ما هذه القوة الجبّارة التي نملكها لنستيقظ كل يوم ولدينا تلك القدرة على كل هذا الطنين الذي يدور في رؤوسنا، فبينما لساني يتكلم العبرية يكاد عقلي يستجمع قاموس شتائمه في وجه موظفة البريد الروسية التي بالكاد تتقن اللغة العبرية بلكنة ثقيلة متأففة، وبينما عليّ أن أشعر بالذنب لمشاهدة فيلم صهيوني القصة في الوقت الذي تُسارع فيه عدة أطراف فلسطينية لمباركة ضرب اليمن بدون أن يرف لهم جفن!!!
وتبقى فقرتي السابقة تخبط آخر وطنين قوّي لعلني أكون قادرة على خوض غماره في فيلم آخر أو عمل فني وشعور بالذنب لاحق ...