عندما سألني "لماذا أمرتهم المديرة بان يقف الطلاب بطابور بعيد عن الطالبات" ... أجبته بكذبة بيضاء " اعتقد ان هناك فعاليات تجذب الفتيان أكثر، فانت ترى لا يهدأون ..." كنت اعرف الجواب الصادق لكنني صمت عن الكلام المباح في تلك الدقيقة، أعتقد أيضاً هو لم يصدق الاجابة كما لم أصدقها انا لكن بعد مرور دقيقة على اجابتي رغبت بان أعود وأقص عليه الاجابة الصحيحة التي أدرك جيداً أنه يعرفها ... لكنني تراجعت مرة آخرى.
هو متطوع برازيلي رافقنا بجولة تطوعية إلى مدرسة العجال، في منطقة غور الأردن، فحين أعلنت مركزتي مشروع " أنا من هذي المدينة" عن جولة للعمل مع الأطفال في المنطقة لم أتردد لثانية ان اشارك بتلك الجولة، فإنضممت لزميلاتي اللواتي كنت اجهل العديد منهن، كون غالبيتهن إنضممن للمشروع في بسنوات لاحقة، ذلك المشروع الذي يحاول منذ 6 سنوات ان يرسم ابتسامة أمل في عيون الاطفال في كل زاوية من فلسطين (ولن أتحدث مطولاً عن أنا من هذي المدينة فله حصة كبيرة ساتحدث عنها لاحقاً ... وربما لن أشبع من تدوينة واحدة لمشروع غيّر حياة الكثيرات".
الحلم في العجال توقف عند شاشة تلفزيون لم يروها
كنت على يقين بأن الطائفية التي أرهقتنا لسنوات لم تصل إلى زوايا فلسطينية كثيرة، وصلنا إلى منطقة الخان الاحمر في غور الأردن ونحن نلمح الأطفال من خلف نوافذ مدرسة بنيت من إطارات السيارات والطين، يلوحون ببراءة للغرباء الذين وصلوا لزيارتهن، تلك اللهفة انستنا كل شيء سوى تصميمنا على المغادرة بعد ان نسرق فرحة من عيونهم.
وسط صرخات الأطفال الفرحة، وطلباتهم بان أصورهم كل منهم بصورة فردية، او صورة جماعية كانوا يعلمون بانهم لن يروها لاحقاً، ففي تلك البلدة لا مجال لمحادثات تشاتيه، ولا لتواصل اجتماعي، ولا لايك او ريتويت ... ففي بلدة العجال توقف الحلم متعلقاً بشاشة التلفزيون التي لم يروها بعد ...
هي تلك القرية التي اختارت السلطات الاسرائيلية مصيرها، وحددت أن تبنى فيها جيلاً يحلم ببيت آمن تصله الكهرباء، والماء الدافئ وتحمي جدرانه من ريح الشتاء وحر الصيف ...
ليتنا نستطيع أن نحمل عالماً بآسره
كل ما هنالك كان يدعوك للسخط ... تود لو تحمل عصا صديقة سندريلا السحرية وتخيط ثوب المدرسة الممزق الذي ترتديه ابنة الصف السابع، او تستغني ليلى الحمراء عن حذائها الاحمر لتمنحه لماريا الطفلة الصغيرة التي تخاف أن تجاريها اللعب والركض خلفها خوفاً على قدميها العاريتين ... ترغب لو تحمل عالماً بأسره إلى هناك...
شعرك مكشوف!!
" لماذا شعرك مكشوف؟ هذا حرام؟ آنت مسيحية؟" اسئلة حلقت بي بعيداً عن المكان، فطلاب الصف الرابع أنهوا أشغالهم اليدوية التي صنعوها برفقة متطوعات انا من هذا المدينة وبحثوا عن شيء آخر يحاولون أن يقوموا به، فلم يجدوا سوى ذلك النقاش مع إحدى المتطوعات ...
صدمت، ابتسمت، لم أدرك إذا ما كنت أصبت بما سمعت أم لا، لكن أدركت حينها ان مشكلة الطابور ليست اعظم المشاكل، ففي تلك المنطقة البعيدة، التي يسعد أطفالها بلعبة صغيرة أو حلوى تغير لهم واقعهم المر لدقائق، يتحدثون برائحة الطائفية النتنة ذاتها التي تفوح باماكن آخرى !!
لكن لم تكن فقط لهجة طائفية بقدر ما كانت تخيفني بمساهمة الطابور بإنشاء جيل جديد ترعرع وسط أجواء مهابة السي سيد، وغطي راسك ... في بلدة صغيرة بعيدة الصراعات الدينية والسياسية والاجتماعية، يعرف من يسكن بشمالها ماذا يجري في بيت الساكن بجنوبها لا يزورها الغرباء سوى نادراً يتحدث أطفالها عن غطاء الرأس والجلوس مع الغرباء وتحريم وتحليل ما يصلهم من الكبار!!!
هو من سيغير العالم يوماً ما
لا أدرك ما الذي يمكن فعله ولا اعرف ما الذي يحتاجه الاطفال ... لكن كل ما أدركه أننا لسنا بحاجة لأن نبحث بعيداً عن حروبنا مع الطائفية ونتهم آلهة العالم الرأسمالي بتحريك أيدي الطائفية ... ولسنا بحاجة لأن نركض باحثين عن سبل لتحرير المرأة من قيودها ونتحدث عن العنف اتجاهها ... فالعنف اتجاه المرأة ما زال يكبر معنا والطائفية تعشش في عقولنا قبل فكرة كسر حاجز الخوف من خطواتنا الأولى ...
اذا رغبنا بجيل جديد ينهض بهذا المجتمع علينا ان ننتبه لوجوده ونحارب اي ظاهرة تطوقه بالتخلف ... لا يمكننا تغيير واقع واحتلال وقمع لكن يمكننا بناء جيل يغير كل هذا